الخميس، 7 فبراير 2019

محاولة تأثيلية في أصل مارية واشتقاقها

لن أتطرّق إلى اسم مارية المشتقّ[1] من اسم مَريَم بالأرامية أو مِريَم في العبرية، وإنما المراد بموضوع اليوم ما ذكرته المعاجم العربية في معاني مارية وهو ما يلخّصه ابن سيده الأندلسي (398-458هـ) في معجمه المحكم [م ر ي]
  • "والمارِيَّةُ من القَطَا المَلْساءُ.
  • وامْرَأَةٌ مارِيَة بَيْضاءُ بَرّاقَةٌ قال الأصمعي لا أعلم أَحدًا أَتَى بهذه اللَّفْظَةِ إِلا ابْنَ أَحَمَرَ ولَها أَخَواتٌ وقد تَقَدَّمَتْ.
  • والمارِيُّ وَلَدُ البَقَرَةِ الأَبْيَضُ الأَمْلَسُ.
  • والمُمْرِيَةُ من البَقَرِ التي لَها وَلَدٌ مارِيٌّ والــمارِيَّةُ البَقَرَةُ الوَحْشِيَّة"
ولعل المراد هنا بالبقر الوحشي الأبيض هو نوع من الضباء الصحراوية، قريب الوصف من المها العربية البيضاء.

البقر الوحشي



وجاء عند الزبيدي في [م ر ي]: "(المِرآة البَيْضاءُ البَرَّاقَةُ) ، كَذَا فِي النسخِ". وكأن خلطا وقع.

وكلام الأصمعي في ابن أحمر يدلّ على نكارة البيت أو ندارة بعض ما فيه، وهو ما لا يختصّ بلفظة مارية وإنما أنكر فيه لفظة بنس أيضا[8]. وقد يكون معنى المرأة في مارية تطويعا من المعاني السابقة كاللون أو من باب التشبب في أوصاف هذه الحيوانات البرية.

وما رُوي من قول أبي أحمر هو: مارِيَّةٌ لُؤْلُؤانُ اللَّوْنِ أَوْرَدَها .. طَلٌّ، وبَنَّس عَنْها فَرْقَدٌ خَصِرُ
جاء في المحكم[2][8] بلفظ ماوية بدل مارية (ولعله تصحيف في إحدى النسخ). والماوية في العربية النسبة إلى الماء مثل المِرآة والبلور كالمها. ولا أعلم من نقل الماوية بمعنى "البقرة لبياضها" غير ابن سيده ولم يتابعه عليها سوى ابن منظور والزبيدي وكأن غيرهم استنكرها أو توجّس منها وهو معنى لم أعثر له على شاهد من خلال ما بحث في كتب الأخبار والأدب واللغة والدواوين وغيرها، وكأنه يريد أنهم اشتقّوا من ذلك لونا ولا أعلم إن كان معنى البقرة في ماوية مما تُفرّد فيه لأجل الخلط الحاصل مع مارية.

كما تنبّه لهذا الخلل الدكتور محمد حسن جبل[7] يقول:
وفي [ل] "الماوية: البقرة لبياضها "وهو غريب حتى لو كان المراد البقرة الوحشية. ولم أجده في مصادر اللسان. وفي المقاييس 5/ 286 "الماوية حجر البلور" فأخشى أن تكون كلمة (البقرة) محرفة عن (البلورة).

وكان ليكون معنى البياض في قول أبي عمرو في مارية "لُؤْلُؤيَّة اللون"[3] من المَرْوُ: وهي "حجارة بيضٌ بَرَّاقة"، جعل صاحب اللسان مارية فيها. وقد يقال أن اشتهار بياض البشرة في نساء الشمال من النصرانيات التي يكثر فيهن اسم Maria مدعاة لإطلاقه صفة في النساء وهذا جد بعيد. 

وأقرب جذر لمعنى البقر في اللغات الأفراسية[4] هو *mar- بمعنى البقر أو البقر الوحشي شائع في اللغات الإفريقية وهو ما أعطى الأكادية ميرو mīru بمعنى العجل وميرتو mīrtu بمعنى البقرة ولعله أعطى العبرية مري / مريء מריא وهي لفظة كثيرة الورود في التوراة للدلالة على حيوان لا يعلم حقيقته ويترجمها الشرّاح بالحيوان أو العجل المعلوف:
  • "وكان كلما خطا حاملو تابوت الرب ست خطوات يذبح ثورا وعجلا معلوفا" [سفر ﺻﻤﻮﺋﻴﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ 6:13]
  • "فذبح ادونيا غنما وبقرا ومعلوفات..." [سفر الملوك الأول 1:9].

وهناك من يرى أن اللفظة العبرية الأخيرة إنما اشتقّت من المادة السامية مارئ/مرء *mrʔ ~ *mariʔ- بمعنى السِمْن أو الماشية المعلوفة أو السمينة.

ومعنى السمانة يوافق ما ذكره الأَصمعي وغيره من أن "القَطاة المارِيَّة هي المَلْساءُ المُكْتنزة اللحم". وفي المري أي المسح على الضرع، ما قد يحمل دلالة على غزارة درّ الحليب أو وفرة اللحم. غير أن في محاولة حملها على هذه المعاني تكلّف بالغ.





خلاصة:

أقرب الظن أن الماري والمارية بمعنى البقر يرتبط بجذر افتراضي في أصل اللغات الإفريقية-الآسيوية هو *mar- للدلالة على البقر والظباء الوحشية، وله مثائل سامية.

أما معنى القطاة، فلعل له اشتقاقا مختلفا أو نسبة لمكان أو صفة أو غيرها نحو اللون، ولذلك قالوا "قطاة ماريَّة" فربما الأصل فيها التشديد بياء النسبة، ولعل الأصل في معنى البقر تخفيفها.[5]

وقد اختلف في تصنيفها أصحاب المعاجم وجعلوها تحت أبواب مكررة شتى، نحو: م ر ي / م ر و / م و ر.
وإن كان أحد معاني مارية من مشتقات مرو أو مري، فماريّة على وزن فاعليّة وخفّفت على فاعلة أي ماريَة أو كان العكس فشدّدوا آخرها[5] أو أنّها نسبة وقعت في مار فقالوا فعليّة.

وذهب ابن سيده إلى أن معنى المرأة الملساء من المور، يقول: "كأنَّ الْيَد تَمْوُر عَلَيْها، أَي تذهبُ وتجيءُ وَقد تكون المارِيَّةُ فاعُولَةً من المَرْيِ.".[6] والقول أنها من المري أقرب لما ذكر ابن عباد في المحيط [م ر ي] في اجتماع دلالة ممرية: "والمارِيَةُ خَفيفَةُ الياء: البَقَرَةُ الوَحْشِيَّةُ، وهي المُمْرِيَةُ؛ اسْمٌ لها. وهي أيضاً: التي تَدُرُّ على المَسْحِ.".

والله أعلى وأعلم



مراجع   

[1] الأعلام الأعجمية في القرآن
[2] وفي اللسان، ب ن س. وكذلك نقل البيت الزمخشري بالواو في الفائق في غريب الحديث والأثر، تحت مدخل "نسأ".
[3] اللسان، مرا.
[4] قاعدة بيانات Starling.
[5] ذكر الجوهري في تاج اللغة [مرا]: "الـماريّة، بتشديد الياء: القطاة الملساء". ونقل ابن عباد في المحيط [م ر ي]: "والمارِيَةُ خَفيفَةُ الياء: البَقَرَةُ الوَحْشِيَّةُ". وخالف ذلك الفيومي [م و ر]: "وَقَطَاةٌ مَارِيَّةٌ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مُكْتَنِزَةُ اللَّحْمِ لُؤْلُؤِيَّةُ اللَّوْنِ وَقَدْ تُخَفَّفُ وَبِهَا سُمِّيت الْمَرْأَةُ وَالْمَارِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ الْبَقَرَةُ الْبَرَّاقَةُ اللَّوْنِ.". وصاغها صاحب اللسان [مرا]: "الأَصمعي: القَطاةُ المارِيَّةُ، بتشديد الياء. هي المَلْساءُ المُكْتنزة اللحم. وقال أَبو عمرو: القَطاة المارِيَة، بالتخفيف، وهي لُؤْلُؤيَّة اللون. ابن سيده: الماريَّة، بتشديد الياء، من القَطا المَلْساء ... ابن الأَعرابي: المارِيَّةُ بتشديد الياء".
[6] ومن معاني اللين والسلاسة قولهم "مَشْيٌ مَوْر أي لَيِّنٌ" [المحكم م و ر].
[7] د. محمد حسن جبل، المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم (2010):
[8] جاء عند ابن سيده في المحكم والمحيط العظيم [بنس]: (ماوِيَّةٌ لُؤْلُؤانُ اللَّوْنِ أوَّدَها ... طَلٌّ وبَنَّسَ عنْها فَرْقَدٌ خَصِرُ) وقال ابن جنّي قولُه بَنَّسَ عنْها إغا هو من النَّوْمِ غير أنه إنما يُقالُ للبَقرةِ ولا أعْلمُ هذا من غير ابن جِنِّي قال وقال الأصمعيُّ وهي أحد الألفاظِ التي انْفَرَدَ بها ابن أحمرَ قال ولم يُسْند أبو زَيْد هذين البيتين إلى ابن أحمرَ ولا هما أيضاً في ديوانه ولا أَنْشَدَهُما الأصمعيُّ فيما أنشده له من الأبيات التي أورد فيها كلماته قال ويَنْبَغِي أن يكونَ ذلك شيئاً جاء به غير ابن أحمر تابِعاً له فيه ومُتَقبِّلاً أَثَرَه هذا أَوْفَقُ من قولِ الأصمعيِّ أنه لم يأت به غيرُه.

سيتم تحديث المقال إن شاء الله إن خرجنا من التكهن بمعلومات أكثر يقينية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق